سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قلت: {إذ قالت}: بدل من {وإذ قالت} الأولى، ويبعد إبدالها من {إذ يختصمون}، و{المسيح} وما بعده: إخبار عن اسمه، أو {عيسى}: خبر عن مضمر، و{ابن مريم}: صفته، و{المسيح}: فعيل بمعنى مفعول، لأنه مُسِحَ من الأقذار، أي: طهر منها، أو مسح بالبركة، أو كان مسيح القدم، لا أخمص له، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان. أو بمعنى فاعل؛ لأنه كان يمسح المرضى فيبرؤون، أو يمسح عين الأعمى فيبصر، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان؛ فتكون الميم زائدة.
وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها، إلا مكة والمدينة، والحاصل: أن عيسى مسيح الخير، والدجال مسيح الشر، ولذلك قيل: إن المسيح يقتل المسيح. و{وجيهاً}: حال من كلمة؛ لتخصيصه بالصفة، و{في المهد وكهلاً}: حالان، أي: طفلاً وكهلاً، والمهد: ما يمهد للصبي. و{رسولاً}: مفعولٌ لمحذوف، أي: ونجعله رسولاً، و{مصدقاً}: عطف على {رسولاً}، و{لأُحِلَّ}: متعلق بمحذوف، أي: وجئتكم لأُحل، أو معطوف على معنى مصدقاً، كقولهم: جئتك معتذراً، أو لأطيب قلبك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر أيضاً {إذ قالت الملائكة} في بشارتهم لمريم: {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه}، أي: بولد يتكوَّن بكلمة من الله؛ كن فيكون، وقيل: إنما سمى كلمة؛ لكونه مظهراً لكلمة التكوين، متحققاً ومتصرفاً بها. ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء، {اسمه المسيح}، واسمه {عيسى ابن مريم}، وإنما قال: {ابن مريم} والخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب؛ إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب. ثم وصف الولد بقوله: {وجيهاً في الدنيا والآخرة} أي: شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه. ويكون {من المقربين} إلى الله تعالى في الدارين.
{ويكلم الناس} طفلاً {في المهد} على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه، {وكهلاً} إذا كمل عقله قبل أن يرفع، أو بعد الرفع والنزول، لأن الكهولة بعد الأربعين، والتحقيق: أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد، معجزةً، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده، وما قاربَ يُعطي حكمه، وحال كونه {من الصالحين} لحضرة رب العالمين.
ولما سمعت البشارة دهشت و{قالت}: يا {رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}، والخطاب لله، فانية عن الواسطة جبريل، والاستفهام تعجباً، أو عن الكيفية: هل يكون بتزوج أم لا؟ {قال} لها الملك: {كذلك الله يخلق ما يشاء}. أو الأمر كذلك كما تقولين، لكن {الله يخلق ما يشاء}؛ لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، بل {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}، {ويعلمه الكتاب} أي: الكتابة والخط، {والحكمة} أي: النبوة، أو الإصابة في الرأي: {والتوراة والإنجيل}.
{و} يجعله {رسولاً إلى بني إسرائيل}. وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف، وآخرهم عيسى- عليهما السلام-، وقال: عليه الصلاة والسلام: «بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل» فإذا بعث إليهم قال: {أني قد جئتكم بآية من ربكم} أي: بأني قد جئتكم آية من ربكم، قالوا: وما هي؟ قال: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}؛ كصورته، {فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله}، وكان يخلق لهم صورة الخفاش، لأنها أكمل الطير؛لأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير، فيكون أبلغ في المعجزة، وكان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل الحق من فعل الخلق،
ثم قال لهم: ولي معجزة أخرى؛ أني {أبرئ الأكمه} الذي ولد أعمى، فأحرى غيره {والأبرص} الذي فيه وضح. وخصهما؛ لأنهما عاهتان معضلتان. وكان الغالب في زمن عيسى الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. رُوِي: أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف، من أطاف منهم البلوغ أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام.
{وأحيي الموتى بإذن الله} لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإحياء ليس من طوق البشر. رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس: (العازر)، وكان صديقاً له، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، وهو في صخرة مطبقة، فدعا الله تعالى، فقام العازر يقطر ودكه، فعاش وولده له. و (ابن العجوز)، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل سريره على عنقه، ورجع إلى أهله، وبقي حتى وُلد له. و (ابنة العاشر)، كان يأخذ العشور، قيل له: أتحييها، وقد ماتت أمس؟ فدعا الله تعالى، فعاشت وولد لها. و (سام بن نوح)، دعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره، وقد شاب نصف رأسه، فقال: أقامت الساعة؟ قال: لا، لكني دعوت الله فأحياك، ما لي أرى الشيب في رأسك، ولم يكن في زمانك؟ قال: سمعت الصيحة، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها. قيل: كان يحيي الموتى ب {يا حي يا قيوم}.
{وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم}، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا، هذا سحر، أخبرنا بما نأكل وما ندخر؟ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه، ورُوِيَ أنه لما كان في المكتب، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام، فيقول للغلام: انطلق... غداء أهلك كذا وكذا، فيقول أهله: من أخبرك بهذا؟ قال: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليسوا ههنا، قال: ماذا في البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا الباب، فإذا هم خنازير، فهموا بقتله، فهربت به أمه إلى مصر.
قاله السُّدي.
ثم قال لهم: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده، {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة} أي: وجئتكم مصدقاً للتوراة، وشاهداً على صحتها، {ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرم عليكم} في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب ولحم الإبل والعمل في السبت. وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة، ولا يخل بكونه مصدقاً له، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته. فإن النسخ في الحقيقة: بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم. ثم قال لهم: {و} قد {جئتكم بآية} واضحة {من ربكم}، قد شاهدتموها بأعينكم، فما بقي إلا عنادكم، {فاتقوا الله وأطيعون}.
ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه} ولا تعبدوا معه سواه، {هذا صراط مستقيم} لا عوج فيه. قال البيضاوي: أي: لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، {فاتقوا الله} في المخالفة، {وأطيعون} فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل، فقال: {إن الله ربي وربكم}؛ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد، وقال: {فاعبدوه}؛ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره: قوله عليه الصلاة والسلام: «قُلْ آمَنْتُ بِاللّهِ ثم اسْتَقِمْ».
الإشارة: كل من انقطع بكليته إلى مولاه، وصدف عن حظوظه، وهواه، وأفنى شبابه في طاعة ربه، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه، تحققت له البشارة في العاجل والآجل، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل، ورزقه من فواكه العلوم، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها، فقربها إليه وتولاها، وبشرها بالاصطفائية والتطهير، وأمرها شكراً بالجد والتشمير، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه، روح الله وكلمة الله، من غير أب ولا سبب، ولا معالجة ولا تعب، أمره بأمر الله، يبئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انطقعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها».
وقال بعضهم: صِدْقُ المجاهدة: الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


قلت: {من أنصاري إلى الله}: الجار يتعلق بحال محذوفة، أي: ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق ب {أنصاري}؛ مضمِّناً معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصره. وحواري الرجل: خاصته، الذي يستعين بهم في نوائبه، وفي الحديث عنه- عليه الصلاة والسلام-: «لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي، الزُّبَيْر» وحواريوا عيسى: أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. والحَوَرُ: البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء: حوارية. وقيل: كان الحواريون قًصَّارين، يُحَوِّرُون الثياب، أي: يبيضونها، وقيل: كانوا ملوكاً يلبسون البياض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فلما أحسن عيسى} من بني إسرائيل {الكفر}، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعدما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، و{قال من أنصاري} ملجئاً {إلى الله}، أو ذاهباً إلى نصر دينه، {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي: أنصار دينه، {آمنا بالله وأشهد} علينا بأننا {مسلمون}؛ لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم، {ربنا آمنا بما أنزلت} على نبيك من الأحكام، {واتبعنا الرسول} عيسى عليه السلام، {فاكتبنا مع الشاهدين} بوحدانيتك، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- فإنهم شهداء على الناس.
قال عطاء: سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً، واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها: كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون.
ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطؤوا عليه، {ومكروا} أي: دبروا الحيل في قتله، {ومكر الله} بهم، أي: استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل: هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج: كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النِّساء: 142]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، {والله خير الماكرين}. أي: أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة؛ لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.
تنبيه: قيل للجنيد رضي الله عنه: كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية:
فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ *** ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ
أُحِبّك لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي *** وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي *** وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ
فقال له السائل: أسألُك عن القرآن، وتجيبني بشعر الطبرانية؟ قال: ويحك، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنَّ تخليته إياهم مع المكرية، مكرٌ منه بهم. اهـ.
قلت: وجه الشاهد في قوله: (وتفعله فيحسن منك ذاك)، ومضمن جوابه: أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية:
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ *** أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ *** فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
وتخليته تعالى إياهم مع المكر، تسبب عنه الرفع إلى السماء، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان، حتى ينزل خليفة عن نبينا- عليه الصلاة والسلام-، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان.
الإشارة: يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين، الذين يجعلهم الله حواري الدين، ففي الحديث الصحيح: «خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ» فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال، يهربون من حس الدنيا وشغبها، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله، وهم أهل التجريد، الذي اصطفاهم الله لخالص التوحيد، فروا إلى الله فآواهم الله، قالوا: {آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون} منقادون لما تريد منا، {ربنا آمنا بما أنزلت} من الأحكام الجلالية والجمالية، قد عرفناك في جميع الحالات، {فاكتبنا مع الشاهدين} لحضرتك، المنعمين بشهود ذاتك، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية، وانصرنا فإنك خير الناصرين، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين.


قلت: {إذ قال}: ظرف لمقدر، أي: اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، و{متوفيك} أي: رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته: قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك؛ بدليل قوله تعالى: {وَهُوَا الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} [الأنعَام: 60]، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت، قال تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}، وقوله: {ذلك} مبتدأ، و{نتلوه}: خبر، و{من الآيات}: حال، أو {من الآيات}: خبر، و{نتلوه}: حال، أو خبر بعد خبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: اذكر {إذ قال الله} لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه: {يا عيسى إني متوفيك}، أي: قابضك إليّ ببدنك تامّاً، {ورافعك إليَّ} أي: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، {ومطهرك من الذين كفروا} أي: من مخالطة دنس كفرهم، {وجاعل الذين اتبعوك}؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع: هم أهل الإسلام. اهـ. فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقّاً وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا.
ثم قال تعالى: {ثم إليَّ مرجعكم} بالبعث، {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين وأمر عيسى. {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة} أي: فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي. {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم} في الدارين بالنصر والعز في الدنيا، وبالرضا والرضوان في الآخرة، {والله لا يحب الظالمين}؛ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه.
{ذلك} الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، {نتلوه عليك من الآيات} أي: العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من {الذكر الحكيم}، وهو القرآن المبين.
الإشارة: كل ما طهر سره من الأكدار، وقدس روحه من دنس الأغيار، ورفع همته عن هذه الدار، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت، وبقي ذكره حيّاً لا يموت، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم، وفي محل الرفعة والتكريم، قال- عليه الصلاة والسلام-: «هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم»، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات، والركون إلى العوائد والمألوفات، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس، وتمكن من العز الذي لا يفنى، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه؛ إلى أن يرث الأرض ومن عليها، {وهو خير الوارثين}. هذه سنة الله في خلقه، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله، فنصرهم الله، ورفعهم الله، قال تعالى: {إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محَمَّد: 7]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا} [التّوبَة: 40]. وفي الحكم: (إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى). والله تعالى أعلم.
وقال القشيري: الإشارة فيه: إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. اهـ. وقال الورتجبي: متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. اهـ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10